 
						في لحظات الضعف والانكسار، كثيرًا ما يولد الأمل من رحم الألم، هكذا يصف المؤرخون نشأة دولة المماليك في القرن الثالث عشر الميلادي، بعد سقوط بغداد بيد المغول وانهيار الخلافة العباسية، فبينما كانت الأمة الإسلامية في واحدة من أعنف محطاتها التاريخية، ظهر المماليك — أولئك “السيوف اليتيمة” الذين جاءوا من أصقاع بعيدة كعبيد وجنود مأجورين، ليصبحوا فيما بعد قادة وسلاطين، ويحولوا القاهرة إلى حصن للإسلام وحاضرة للحضارة.
لكن كيف انتقل هؤلاء من الهامش إلى صدارة التاريخ؟ ولماذا رأى فيهم ابن خلدون وغيره من المؤرخين “لطف الله بالأمة”؟
من الرق إلى السلطة
وصف المماليك بـ”السيوف اليتيمة” لأنهم جلبوا صغارًا من بلاد القوقاز وآسيا الوسطى، مقطوعي الجذور، بلا قبائل أو عائلات تحميهم، اشترى السلاطين والأمراء هؤلاء الغلمان وربوهم تربية عسكرية صارمة، أُطلق عليهم لقب المماليك أي “المملوكين”.
لكن المفارقة التاريخية أن هؤلاء “الأيتام” أصبحوا عماد الجيش الإسلامي، ولما ضعفت الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين الأيوبي، وجدوا أنفسهم يتسلمون مقاليد الحكم ليقيموا سلطنة امتدت أكثر من خمسة قرون (1250–1517م).
عين جالوت وكسر المغول
الامتحان الأول والحاسم لدولة المماليك جاء سريعًا، ففي عام 1260م قاد السلطان سيف الدين قطز جيش المماليك لمواجهة المغول الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وأسقطوا بغداد، كانت معركة عين جالوت في فلسطين فاصلة؛ انتصر فيها المماليك انتصارًا مدويًا، حفظ الله بهم الأمة من الانهيار الكامل.
ذلك اليوم، رأى المؤرخون أن المماليك لم يكونوا مجرد جنود، بل قدر إلهي لحماية الأمة.
القاهرة المملوكية: حاضرة الدنيا وبستان العالم
بعد تثبيت حكمهم، اتخذ المماليك من القاهرة عاصمة لهم، وحولوها إلى واحدة من أعظم مدن العالم الإسلامي.
- 
العمارة: شيدوا مدارس ومساجد وقلاعًا ضخمة مثل قلعة صلاح الدين ومدرسة السلطان حسن. 
- 
العلم: استقطبوا العلماء من كل مكان، فصارت القاهرة مركزًا للفقه والحديث والطب والفلك. 
- 
الثقافة: امتزجت فيها ثقافات الأتراك والشراكسة والعرب، لتنتج لوحة حضارية فريدة. 
حتى قال عنها ابن خلدون: “محشر الأمم، وكرسي الملك، وبستان العالم، ومجمع البحرين، وقبلة الإسلام، وكرسي الدين.”
سلطة بالقلم والسيف
لم يكن المماليك مجرد سيوف في ساحات القتال، بل عرفوا كيف يبنون دولة قوية بالعلم والإدارة:
- 
أنشأوا نظامًا بيروقراطيًا دقيقًا حافظ على موارد الدولة. 
- 
رعوا التجارة الدولية بين الشرق والغرب عبر البحر الأحمر وموانئ الإسكندرية ودمياط. 
- 
دعموا الوقف الإسلامي فازدهرت المؤسسات التعليمية والخيرية. 
رغم مجدهم، لم تخلي الدولة المملوكية من صراعات:
- 
تنافس الأمراء على الحكم أدى لانقلابات متكررة. 
- 
الانقسامات بين المماليك البحرية (الأتراك) والمماليك البرجية (الشراكسة). 
- 
الضغط الخارجي من العثمانيين والبرتغاليين، الذي انتهى أخيرًا بسقوط دولتهم عام 1517م على يد السلطان العثماني سليم الأول. 
قصة المماليك ليست مجرد فصل في كتب التاريخ، بل عبرة للأمة اليوم، فقد نهضوا من موقع الضعف والهامش ليكونوا سدًّا منيعًا أمام الغزو المغولي والصليبي، جعلوا من القاهرة حاضرة الحضارة الإسلامية لقرون، وأثبتوا أن العدل والعلم والقوة الداخلية يمكن أن تعيد للأمة مجدها مهما اشتدت الأزمات.
إنها رسالة للتاريخ والحاضر معًا: عندما تسقط أمة، لا يعيدها إلا سواعد أبنائها وعون ربها.



